خطبة الجمعة القادمة : تحويل القبلة دروس وعبر ، للدكتور محمد حرز
خطبة الجمعة القادمة بعنوان : تحويل القبلة دروس وعبر ، للدكتور محمد حرز ، بتاريخ 13 شعبان 1445هـ ، الموافق 23 فبراير 2024م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 23 فبراير 2024م بصيغة word بعنوان : تحويل القبلة دروس وعبر ، للدكتور محمد حرز.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 23 فبراير 2024م بصيغة pdf بعنوان : تحويل القبلة دروس وعبر ، للدكتور محمد حرز.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 23 فبراير 2024م بعنوان : تحويل القبلة دروس وعبر.
أولًا: شعبانُ بوابةٌ لرمضانَ.
ثانيــــًا: تحويلُ القبلةِ عظاتٌ وعبرٌ.
ثالثــــًا وأخيرًا: اللهَ اللهَ في المسجدِ الأقصَى والمسجدِ الحرامِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 23 فبراير 2024م بعنوان : تحويل القبلة دروس وعبر : كما يلي:
تحويلُ القبلةِ دروسٌ وعبٌر ، للدكتور/ مُحمد حرز
بتاريخ 13 شعبان 1445هـ، الموافق 23 فبراير 2024م
الْحَمْدُ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأُثْنِي عَلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ القائلِ في محكمِ التنزيلِ:{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} البقرة: 144، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وليُّ الصالحين، وَأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وصفيُّهُ مِن خلقهِ وخليلُهُ، القائلُ كما في حديثِ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (إِنَّ الْيَهُود قَوْمٌ حُسَّدٌ وَإِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإمَامِ: آمِينَ، وَعَلَى السَّلَامِ)، يا مصطفَى
وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني ** وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خلقتَ مبرأً منْ كلّ عيبٍ ** كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ
فاللهُمّ صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ وعلى آلهِ وصحبهِ الأعلامِ، مصابيحِ الظلامِ، خيرِ هذه الأمةِ على الدوامِ، وعلى التابعينَ لهم بإحسانٍ والتزامٍ. أمَّا بعدُ …..فأوصيكُم ونفسِي أيُّها الأخيارُ بتقوى العزيزِ الغفارِ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )(أل عمران : 102) عبادَ الله:( تحويلُ القبلةِ دروسٌ وعبٌر)عنوانُ وزارتنِا وعنوانُ خطبتِنا
عناصر اللقاء:
أولًا: شعبانُ بوابةٌ لرمضانَ.
ثانيــــًا: تحويلُ القبلةِ عظاتٌ وعبرٌ.
ثالثــــًا وأخيرًا: اللهَ اللهَ في المسجدِ الأقصَى والمسجدِ الحرامِ.
أيُّها السادةُ: ما أحوجنَا إلى أنْ يكونَ حديثُنا في هذه الدقائقِ المعدودةِ عن تحويلِ القبلةِ دروسٌ وعبرٌ، وخاصةً ولنشعرَ جميعًا بأهميةِ المسجدِ الأقصَى في حياتِنَا وفي دينِنَا وما يتعرضُ لهُ مِن انتهاكاتٍ بالليلِ والنهارِ، فهو أُولَى القبلتينِ ومسرَى الحبيبِ المصطفَى ﷺ واسألُ اللهَ أنْ يطهرَهُ مِن دنسِ اليهودِ، وخاصةً ولقد وقعتْ في سيرةِ المصطفَى ﷺ حوادثُ فارقةٌ في توجيهِ مسيرةِ الأمةِ الإسلاميةِ، وحادثةُ تحويلِ القبلةِ مِن الحوادثِ الفارقةِ في تميُّزِ الصفِّ المسلمِ، وهتْكِ سرائرِ الحاقدينَ والمرجفينَ، وهكذا يظلُّ تحويلُ القبلةِ أيُّها الأخيارُ حدثًا فارقًا في تاريخِ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ، ومسيرةِ بناءِ الدولةِ المسلِمةِ على مرِّ العصورِ والأجيالِ، وخاصةً وتحويلُ القبلةِ مِن بيتِ المقدسِ إلى الكعبةِ مِن القضايا الهامةِ التي كانت اختبارًا وامتحانًا للمؤمنين، وقد كان الرسولُ الأمينُ متشوِّقًا إلى ذلك، فلمَّا قضَى اللهُ الأمرَ بذلك فرحَ النبيُّ المختارُ وأصحابُهُ، وغضبَ اليهودُ والمشركونَ والمنافقونَ، ولم يضيع اللهُ صلاةَ مَن صلَّى إلى بيتِ المقدسِ قبلَ التحويلِ، بل سمَّى صلاتَهُم إيمانًا، قالَ جلَّ وعلا: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( البقرة:143.
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة : تحويل القبلة دروس وعبر
أولًا: شعبانُ بوابةٌ لرمضانَ.
أيُّها السادة: شعبانُ بوابةٌ وقنطرةٌ لرمضانَ، شعبانُ دورةٌ تأهيليةٌ تدريبيةٌ على الصيامِ والقيامِ والقرآنِ، شعبانُ نهايةُ السنةِ التكليفيةِ للإنسانِ، شعبانُ البيانُ الختامِيُّ للسنةِ كلِّهَا ترفعُ فيهِ الأعمالُ إلى اللهِ، شعبانُ شهرُ القرآءِ، فكان حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي شَعْبَانَ فَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا دَخَلَ شَهْرُ شَعْبَانَ، أَقْبَلُوا عَلَى مَصَاحِفِهْمِ فَقَرَأُوهَا، وَأَخْرَجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ لِيُعِينُوا غَيْرَهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ فِي رَمَضَانَ. وَتَرَكُوا الْكَثِيرَ مِنْ مَشَاغِلِ الدُّنْيَا، وَأَخَذُوا يَسْتَعِدُّونَ فِيهِ لاِسْتِقْبَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَكْثَرُوا فِيهِ مِنَ الصِّيَامِ وَالذِّكْرِ وَالْقِيَامِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ عَنْ شَهْرِ شَعْبَانَ إِنَّهُ شَهْرُ الْقُرَّاءِ.
وإنَّ لشهرِ شعبانَ عندَ اللهِ -تعالى- فضيلةً، وقد كانت الجاهليةُ تُغالِي في تعظيمِ رجبٍ وتهملُ شهرَ شعبانَ، فجعلَ اللهُ لهُ مِن الخصائصِ ما زادَهُ مكانةً في نفوسِ المسلمين، جعلَهُ اللهُ شهرَ ختامٍ لأعمالِ السنةِ: فعن أسامةَ بنِ زيدٍ -رضي اللهُ عنهما- قال: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ ﷺ: « ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ الناسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَب الْعَالَمِينَ، فَأُحِب أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ »؛ (رواه أحمد والنسائي)، ولقد خصَّ اللهُ جلَّ وعلَا شهرَ شعبانَ بليلةِ النصفِ المباركةِ: قالَ النبيُّ ﷺ: « إِن اللهَ لَيَطلِعُ فِي لَيْلَةِ النصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ »، (رواه ابن ماجه وابن حبان )، وقال ﷺ: « إِذا كَانَ لَيْلَةُ النصْفِ مِنْ شَعْبانَ اطلَعَ الله إِلَى خَلْقِهِ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤمِنِينَ ويُمْلِي لِلْكافِرِينَ ويَدَعُ أهْلَ الحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتى يَدَعُوهُ »؛ (رواه البيهقي).وخصّهُ النبيُّ ﷺ بزيادةِ صيامٍ: ففي حديثِ أسامةَ بنِ زيدٍ -رضي اللهُ عنهما- قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: « ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ الناسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَب الْعَالَمِينَ، فَأُحِب أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ »؛ (رواه النسائي).وتقولُ عائشةُ -رضي اللهُ عنها-: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَصُومُ حَتى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ؛ (رواه البخاري)، ولمسلمٍ عنهَا: “كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلا قَلِيلًا”. فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللهُ كَيْفَ كَانَ حَالُ نَبِيِّنَا ﷺ فِي شَعْبَانَ. وخصّهُ اللهُ جلَّ وعلَا بحادثةٍ تعلنُ للعالمِ تميزَ المسلمينَ عن غيرِهِم، وبراءتَهُم مِن كلِّ ملةٍ مخالفةٍ، وهي: “حادثةُ تحويلِ القبلةِ” فعندمَا قدمَ النبيُّ ﷺ مِن مكةَ إلى المدينةِ كان يستقبلُ بيتَ المقدسِ، وبقِيَ على ذلك ستةَ – أو سبعةَ – عشرَ شهرًا، كما ثبتَ في الصحيحينِ مِن حديثِ البَرَاءِ بنِ عازبٍ -رضي اللهُ عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ ))ثمَّ بعدَ ذلكَ أمرَهُ اللهُ تعالَى باستقبالِ الكعبةِ ( البيتِ الحرامِ ) وذلك في قولِهِ جلَّ وعلا: ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]فأمرَ اللهُ تعالَى نبيَّهُ ﷺ في هذه الآيةِ باستقبالِ الكعبةِ، ومِن ذلك الوقتِ صارتْ الكعبةُ قبلتَهُ ﷺ، وقبلةَ أمتهِ مِن بعدِه. إنَّ للهِ تعالَى في جعلِ القبلةِ إلى بيتِ المقدسِ، ثم تحويلِهَا إلى الكعبةِ، حِكَمًا عظيمةً، فتحويلُ القبلةِ حادثٌ جللٌ كان له تأثيرهُ القويُّ في مصيرِ الأمةِ الإسلاميةِ ونفوسِ المؤمنينَ، ونفوسِ الجاحدينَ مِن اليهودِ والمشركينَ والمنافقين، وهو حادثٌ غيّرَ وجهَ التاريخِ بحقٍ فقد اختلتْ الموازينُ عندَ اليهودِ الذينَ كان يُعجبُهُم أنّهُ ﷺ يتجهُ إلى قبلتِهِم وكأنّهُ يتبعهُم، واختلتْ الموازينُ عندَ القرشيينَ مِن المشركينَ لَمّا أُعلِنَ المسجدُ الحرامُ وهم حولهُ قبلةً لأمةِ الإسلامِ، إيذانًا بعودةِ المسلمينَ إليهِ وسلبهِ مِن أيدي هؤلاءِ المعاندين، واختلتْ الموازينُ عندَ المنافقينَ الذين ظنُّوا أنَّ الإسلامَ أقوالٌ لا أفعالٌ، وأنَّهُ ما سيدعوهُم إلى العملِ والاجتهادِ لرفعةِ الإسلامِ والمسلمين، لذا جعلَ اللهُ جلَّ وعلَا مرورَ الأوقاتِ تذكرةً لعبادهِ المؤمنين، وللمؤمنِ في كلِّ وقتٍ مِن الأوقاتِ عبوديةً للهِ، ومِن سعادةِ العبدِ أنْ يعرفَ شرفَ الزمنِ وقيمةَ الوقتِ، وأنْ يعرفَ وظائفَ الأوقاتِ حتى يعمرَهَا بطاعةِ الرحمنِ، والمسلمُ دائمًا يهتمُّ بواجبِ الوقتِ الذي هو فيه، ويغتنمُ الفرصَ في كلِّ زمانٍ ليحققَ عبوديتَهُ للهِ -سبحانه- التي خُلِقَ مِن أجلِهَا قبلَ فواتِ الأوان، فشعبانُ نفحةٌ مِن نفحاتِ ربِّكُم ألَا فتعرضُوا لها قبلَ فواتِ الأوانِ، حباهُ اللهُ بخيراتٍ عظيمةٍ وبفضائلَ عديدةٍ وفوائدَ كثيرةٍ فاغتنموهُ قبلَ فواتِ الأوانِ.
دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلة ٌ له***إنَّ الحياة َ دقائقٌ وثواني
فارفعْ لنفسِكَ بعدَ موتكَ ذكرَهَا ***فالذكرُ للإنسانِ عُمرٌ ثاني
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة : تحويل القبلة دروس وعبر
ثانيــــًا: تحويلُ القبلةِ عظاتٌ وعبرٌ.
أيُّها السادةُ: لقد كان تحويلُ القبلةِ حدثًا جللًا عظيمًا، فيهِ مِن الدروسِ والعبرِ الكثيرُ والكثيرُ، والتي ينبغِي الوقوفُ معهَا للاستفادةِ منها، لِمَن كان لهُ قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيدٌ.
أولُها: تحويلُ القبلةِ محنةٌ وابتلاءٌ واختبارٌ وتمحيصٌ ليتميزَ الصفُّ فكانت الفارقَ بينَ مَن يعبدُ اللهَ ومَن يعبدُ هواهُ، سرعةُ الاستجابةِ والامتثالُ لأوامرِ الشرعِ ولو تعارضتْ مع أهواءِ النفسِ، وتصادمتْ مع آراءِ الناسِ، قال ابنُ القيمِ: كان للهِ في جعلِ القبلةِ إلى بيتِ المقدسِ ثُمّ تحويلِهَا إلى الكعبةِ حكمٌ عظيمةٌ، ومحنةٌ للمسلمينَ والمشركينَ واليهودِ والمنافقين. فأمَّا المسلمونَ فقالوا: سمعنَا وأطعنَا وقالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] وهم الذين هدَى اللهُ، ولم تكنْ كبيرةً عليهم، وأمَّا المشركونَ فقالوا: كما رجعَ إلى قبلتِنَا، يوشكُ أنْ يرجعَ إلى دينِنَا، وما رجعَ إليها إلّا أنّهُ الحقُّ. وأمّا اليهودُ فقالُوا: خالفَ قبلةَ الأنبياءِ قبلَهُ، ولو كان نبيَّا لكانَ يُصلِّي إلى قبلةِ الأنبياءِ، وأمَّا المنافقونَ فقالُوا: ما يدرِي محمدٌ أين يتوجّهُ، إنْ كانت الأولى حقًّا فقد تركهَا، وإنْ كانت الثانيةُ هي الحقُّ فقد كان على باطلٍ، وكثُرتْ أقاويلُ السفهاءِ مِن الناسِ، وكانت كما قال اللهُ تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] وكانت محنةً مِن اللهِ امتحنَ بهَا عبادَهُ ليرَى مَن يتبعُ الرسولَ منهم مِمَّن ينقلبُ على عقبيهِ. فعندمَا تُبتلَى النفوسُ يتبيّنُ مَنْ يعبدُ اللهَ مِمّنْ يعبدُ هواهُ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ قال: لقينِي راهبٌ فقال: يا سعيد، في الفتنةِ يتبيّنُ مَن يعبدُ اللهَ مِمّن يعبدُ الطاغوت. وعندمَا تُبتلَى النفوسُ يظهرُ مَن يعبدُ اللهَ على حرفٍ مِمّن رسختْ أقدامُهُ في الإيمانِ، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] وعندما تُبتلَى النفوسُ يتبينُ مَن يعبدُ اللهَ رجاءَ ما عندَ اللهِ، مِمّن لا يريدُ إلّا الدنيا، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما- قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا، وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ؟ يارب سلم قال جل وعلا((وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍۢ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِۦ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ)) سورة الحج11
ومِن الدروسِ والعبرِ مِن تحويلِ القبلةِ: مكانةُ النبيِّ ﷺ ومنزلتُهُ عندَ ربِّهِ سبحانه وتعالى وكيف لا ؟وهو إمامُ الأنبياءِ وإمامُ الأتقياءِ وإمامُ الأصفياءِ وكيف لا وهو قدوتُنَا وأسوتُنَا ومعلمُنَا ومرشدُنَا بنصٍّ مِن عندِ اللهِ ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21 ،قال جل وعلا: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144].فقد كان ﷺ يقلِّبُ وجهَهُ في السماءِ، يحبُّ أنْ يصرفَهُ اللهُ عزّ وجلَّ إلى الكعبة، حتى صرَفَهُ اللهُ إليها.
ومِن الدروسِ والعبرِ مِن تحويلِ القبلةِ: مكانةُ الأمةِ الإسلاميةِ وفضلُهَا عندَ اللهِ جلَّ وعلا، فالأمةُ الإسلاميةُ لها مكانةٌ عظيمةٌ بينَ الأممِ منها: أنَّها الأمةُ الوسطُ فقد قالَ تعالَى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، يقولُ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه: إنّمَا حولنَاكُم إلى قبلةِ إبراهيمَ عليه السلامُ، واخترناهَا لكُم لنجعلَكُم خيارَ الأممِ، لتكونُوا يومَ القيامةِ شهداءَ على الأممِ؛ لأنَّ الجميعَ معترفونَ لكم بالفضلِ، فهذه الأمةُ هي الأمةُ الوسطُ في التصورِ والاعتقادِ، وفي التفكيرِ والشعورِ في التنظيمِ والتنسيقِ، في الارتباطاتِ والعلاقاتِ، وحتى في المكانِ في سُرةِ الأرضِ وأوسطِ بقاعِهَا.ومنها: أنَّها أعظمُ الأممِ وأسبقُهَا فضلًا، قال اللهُ تعالى :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمةٍ أُخْرِجَتْ لِلناسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ﴾ [آل عمران:110وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ( نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَولُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنةَ) (رواه مسلم)، لذا ينبغِي علينَا عدمُ الإعجابِ بالأممِ الكافرةِ والاقتداءِ بهِم في ضلالِهِم، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي اللهُ عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ). قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فَمَنْ). (متفق عليه)
تابع / خطبة الجمعة القادمة : تحويل القبلة دروس وعبر
ومِن أعظمِ الدروسِ والعبرِ: سرعةُ الاستجابةِ لأمرِ اللهِ وأمرِ رسولِهِ ﷺ، والاستجابةُ هي الخضوعُ والانقيادُ والطاعةُ للهِ ولرسولهِ ﷺ والاستجابةُ هي أنْ ينقادَ قلبُكَ وجوارحُكَ وأقوالُكَ وأفعالُكَ وجميعُ حالِكَ لأوامرِ الدينِ ونواهيهِ، والاستجابةُ للهِ والرسولِ هي الاستجابةُ للإسلامِ بكلِّ ما فيهِ، استِجابةٌ شاملةٌ واسعةٌ في كلِّ شيءٍ ،فالمسلمُ عبدٌ للهِ تعالى، يسلِّمُ لأحكامِه وينقادُ لأوامرِه بكلِّ حبٍّ ورضَا، ويستجيبُ لذلك، ويسارعُ للامتثالِ بكلِّ ما أوتِيَ مِن قوةٍ وجهدٍ، فأصلُ الإسلامِ التسليمُ، وخلاصةُ الإيمانِ الانقيادُ، وأساسُ المحبةِ الطاعةُ، لذا كان عنوانُ صدقِ المسلمِ وقوةُ إيمانِه هو فعلُ ما أمرَ اللهُ والاستجابةُ لحكمِهِ، والامتثالُ لأمرِهِ في جميعِ الأحوالِ، لا يوقفهُ عن الامتثالِ والطاعةِ معرفةُ الحكمةِ واقتناعهُ بهَا، لأنّهُ يعلمُ علمَ اليقينِ، أنَّه ما أمرَهُ اللهُ تعالَى بأمرٍ ولا نهاهُ عن شيءٍ، إلّا كان في مصلحتهِ، سواءٌ علمَ ذلك أو لم يعلمْهُ، كما قالَ تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } [الأحزاب: 36]، هذه الطاعةُ، وذلك التسليمُ، الذي أقسمَ اللهُ تعالى بنفسِهِ على نفيِ الإيمانِ عمَّن لا يملكهُ في قولِه تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، والصحابةُ رضي اللهُ عنهُم ضربُوا أروعَ الأمثالِ في سرعةِ امتثالِهِم لأوامرِ الشرعِ، فلمَّا أُمِرُوا بالتوجهِ إلى المسجدِ الحرامِ سارعُوا وامتثلُوا، بل إنَّ بعضَهُم لَمَّا علمَ بتحويلِ القبلةِ وهُم في صلاتِهِم تحولُوا وتوجهُوا إلى القبلةِ الجديدةِ في نفسِ الصلاةِ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما قَالَ: بَيْنَما النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ))رواه البخاري. وعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ. بادرْ واستجبْ لربِّكَ وهو يدعُوكَ إلى الصلواتِ الخمسِ في كلِّ يومٍ وليلةٍ، وأدِّهَا مع جماعةِ المسلمين كمَا يحبُّ. بادرْ واستجبْ لربِّكَ في كلِّ أمرٍ أمرَكَ بهِ. بادرْ واستجبْ لربِّكَ في تركِ كلِّ ما حرَّمَ عليكَ مِن صغيرٍ أو كبيرٍ مِن ظلمِ العبادِ والغشِّ في المعاملةِ والكذبِ أو الغيبةِ، وأكلِ الربَا، والنظرِ إلى الحرامِ، وشربِ الحرامِ مِن المسكراتِ والدخانِ وغيرِهَا، وقُلْ كمَا قالَ الأولون: انتهينَا انتهينَا ربَّنَا .بادرْ بالأعمالِ الصالحةِ قبلَ أنْ تغادرَ الحياةَ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا)) رواه مسلمٌ، وللهِ درُّ الشافعيِّ رحمَهُ اللهُ:
تَعصِي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ *** هَذا مَحالٌ في القِياسِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقًا لَأَطَعتَهُ *** إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ
ومِن الدروسِ والعبرِ مِن تحويلِ القبلةِ: نتعلمُ مِن الصحابةِ الأخيارِ الأطهارِ درسًا في معنَى الأخوةِ والمحبةِ والألفةِ والتعاونِ، فالأخوةُ نعمةٌ ربانيةٌ، ومنحةٌ إلهيةٌ، يقذفُهَا اللهُ في قلوبِ عبادِهِ الأصفياءِ وأوليائِهِ الأتقياءِ، فالأخوةُ الموصولةُ بحبلِ اللهِ نعمةٌ امتنَّ بهَا ربُّنَا جلّ وعلا على المسلمينَ الأوائلِ، قالَ ربُّ العالمين: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ال عمران 103، لذا جمعَ اللهُ بينَ الإيمانِ والأخوةِ فقالَ سبحانه: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، فالمؤمنونَ جميعًا كأنَّهُم روحٌ واحدٌ، وصدقَ النبيُّ ﷺ إذ يقولُ كما في صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) (متفق عليه)، فلقد أظهرَ تحويلُ القبلةِ حرصَ المؤمنِ على أخيهِ وحبِّ الخيرِ لهُ، فحينمَا نزلتْ الآياتُ التي تأمرُ المؤمنينَ بتحويلِ القبلةِ إلى الكعبةِ، تساءلَ المؤمنونَ عن مصيرِ عبادةِ إخوانِهِم الذين ماتُوا وقد صلُّوا نحو بيتِ المقدسِ، فأخبرَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ صلاتَهُم مقبولةٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَكَيْفَ الَّذِينَ مَاتُوا، وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:143]، وهكذا الأخوةُ الصادقةُ لا تنقطعُ بالموتِ، بل لا تنقطعُ في أحلكِ الظروفِ في عرصاتِ القيامةِ، فعن أبي سعيدٍ الخدرِي رضي اللهُ عنه أنَّ النبيَّ ﷺ ذكرَ شفاعةَ بعضِ المؤمنينَ لإخوانِهِم، فقالَ: (فيقولون: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ)، اللهَ اللهَ في الأخوةِ الصادقةِ الخالصةِ لوجهِ اللهِ جلّ وعلا، لذا قال الحسنُ البصريُّ: استكثرُوا مِن الأصدقاءِ المؤمنينَ فإنَّ لهم شفاعةً يومَ القيامةِ.
مِن دروسِ حادثةِ تحويلِ القبلةِ المهمة: حقيقةُ الصراعِ بينَا وبينَ اليهودِ فليسَ صراعَ أرضٍ وحدودٍ إنّما صراعُ عقيدةٍ ووجودٍ حيثُ وضَّحتْ للمسلمين طبيعةَ الكفارِ وأنّهم لن يرضُوا أبدًا عن المسلمينَ إلّا أنْ يتبعوهُم ويكونُوا مثلَهُم، قال جلّ وعلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، قال تعالى في معرضِ حديثِ الآياتِ عن القبلةِ: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } [البقرة: 145]، وهنا ندركُ أصالةَ عدوانِ هؤلاءِ للإسلامِ والمسلمين، فقد شنُّوا حربًا إعلاميةً ضاريةً في أعقابِ حدثِ تحويلِ القبلةِ، ولقد فُتنَ ضعافُ الإيمانِ كما فُتنَ إخوانُهُم في حادثِ الإسراءِ والمعراجِ، وإنَّ المتأملَ لآياتِ تحويلِ القبلةِ – وهي تردُّ شبهاتِ اليهودِ – يتبينُ لهُ مدَى ضراوةِ الحربِ الإعلاميةِ والفكريةِ التي شنَّهَا اليهودُ، وما زالُوا إلى اليومِ يسيطرونَ على القنواتِ والأبواقِ الإعلاميةِ المسموعةِ والمرئيةِ، وكلُّ همهِم هو تشويهُ صورةِ المسلمينَ وتشتيتُ شملِهِم، وحالهِم كما قال اللهُ تعالى { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } [المائدة: 64]
ومِن دروسِ حادثةِ تحويلِ القبلةِ المهمة: توحدُنَا وتوحيدُنَا مِن كلِّ اتجاهٍ، في أنحاءِ الأرضِ جميعًا، قبلةٌ واحدةٌ تجمعُ هذه الأمةَ وتوحِّدُ بينهَا على اختلافِ مواطنِهَا، واختلافِ مواقعِهَا مِن هذه القبلةِ، واختلافِ أجناسِهَا وألسنتِهَا وألوانِهَا، قبلةٌ واحدةٌ، تتجهُ إليهَا الأمةُ الواحدةُ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِهَا، فتشعرُ أنَّها جسمٌ واحدٌ، وكيانٌ واحدٌ، تتجهُ إلى هدفٍ واحدٍ، وتسعَى لتحقيقِ منهجٍ واحدٍ، منهجٍ ينبثقُ مِن كونِهَا جميعًا تعبدُ إلهًا واحدًا، وتؤمنُ برسولٍ واحدٍ، وتتجهُ إلى قبلةٍ واحدةٍ. فالمسلمونَ يتعلمونَ مِن وحدةِ القبلةِ، وحدةَ الأمةِ في الهدفِ والغايةِ، وأنَّ الوحدةَ والاتحادَ ضرورةٌ في كلِّ شئونِ حياتِهِم الدينيةِ والدنيويةِ، قالَ تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]لكن هل هذه هي أمةٌ دستورُهَا القرآنُ..، ونبيُّهَا المصطفَي العدنان.. ما الذي غيّرَهَا وما الذي بدَّلَهَا؟ ما الذي حدثَ؟ وما الذي جرَى؟ أمةٌ ذلتْ بعدَ عزةٍ…!!وضعفتْ بعدَ قوةٍ…!!وجَهلتْ بعدَ علمٍ …!! وصدقَ قولُ نبيِّنَا ﷺ إذ يقولُ كما في حديثِ ثوبانَ: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ قَالَ قُلْنَا وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)) لكن كيفَ كُنَّا بالأمسِ؟ وكيفَ أصبحنَا اليوم؟ عندما ذهبَ عمرُ بنُ الخطابِ رضى اللهُ عنه ليتسلمَ مفاتحَ بيتِ المقدسِ وهو يلبسُ ثيابًا مرقعًا ويضعُ نعليهِ على عاتقِه، فقال أبو عبيدةَ يا أميرَ المؤمنين لا أحبُّ أنْ يراكَ القومُ على هذه الحالةِ، فقال أوهٍ لو يقلْ ذا غيرُكَ أبا عبيدةَ جعلتُهُ نكالًا لأمةِ مُحمدٍ ﷺ، إنّا كنّا أذلَّ قومٍ فأعزّنَا اللهُ بالإسلامِ، فمهمَا ابتغينَا العزةَ بغيرِ ما أعزّنَا اللهُ بهِ أذلَّنَا اللهُ. فالعزةُّ للهِ ولرسولِه وللمؤمنين بوعدِ اللهِ وصدقِ رسولِه ﷺ
ومِن الدروسِ والعبرِ مِن تحويلِ القبلةِ: أنَّ مَن عاشَ على القبلةِ ماتَ عليهَا، فعن عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ المخزومِي، قال: اشتدَّ وجعُ سعيدِ بنِ المسيبِ، فدخلَ عليهِ نافعُ بنُ جبيرٍ يعودُهُ، فأُغمِيَ عليهِ، فقالَ نافعٌ: وجهوهُ إلى القبلةِ. ففعلُوا، فأفاقَ، فقالَ: مَن أمرَكُم أنْ تُحوِّلُوا فراشِي إلى القبلةِ، أنافعٌ؟ قال: نعم. قال له سعيدٌ: لئن لم أكنْ على القبلةِ والملةِ واللهِ لا ينفعنِي توجيهُكُم فراشِي).
أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لِي ولكُم
الخطبةُ الثانية الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلَّا لهُ وبسمِ اللهِ ولا يستعانُ إلَّا بهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وبعدُ
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة : تحويل القبلة دروس وعبر
ثالثــــًا وأخيرًا: اللهَ اللهَ في المسجدِ الأقصَى والمسجدِ الحرامِ.
أيُّهَا السادةُ: لقد شرّفَ اللهُ المساجدَ وعظمَهَا، وأعلَى شأنَهَا ورفعَ قدرَهَا، واختارَ مِن بينهَا المساجدَ الثلاثةَ المشهورةَ المعروفةَ، المسجدَ الحرامَ، والمسجدَ الأقصَى، ومسجدَ النبيِّ ﷺ، ويكفِيهَا قدرًا وفخرًا وشرفًا أنَّ اللهَ اختارَهَا مِن بينَ المساجدِ كلِّهَا، وما ذلك إلّا لعظمةِ شأنِهَا وعلوِّ منزلتِهَا. فالمسجدُ الحرامُ هو أولُ مسجدٍ وُضعَ في الأرضِ، وهو قبلةُ المسلمينَ إلى قيامِ الساعةِ، وأحدُ المساجدِ التي يُشدُّ إليها الرحالُ، والبقعةُ التي حرّمَ اللهُ فيها القتالَ، ومنه انطلقتْ رحلةُ الإسراءِ والمعراجِ، يقولُ اللهُ جلَّ وعلا: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة : 125].وأمَّا المسجدُ الأقصَى فإنَّهُ ثاني مسجدٍ وُضِعَ في الأرضِ، وقبلةُ المسلمينَ الأولى، صلَّى إليهِ المسلمونَ ستةَ عشرَ شهرًا، وأحدُ المساجدِ التي يُشدُّ إليها الرحالُ، وإليهِ انطلقتْ رحلةُ الإسراءِ مِن المسجدِ الحرامِ، وقد وصفَ اللهُ أرضَ بيتِ المقدسِ بصفاتِ البركةِ والطهرِ والقدسيةِ، كما قال -تباركَ وتعالى- حاكيًا عن موسى عليهِ السلامُ: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة:21]، فوصفَهَا بالقداسةِ والطهارةِ، وقالَ عزَّ وجلَّ: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)، وقالَ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه) [الإسراء:1]، فهناكَ علاقةٌ وثيقةٌ بينَ المسجدينِ لا يذكرُ المسجدُ الحرامُ إلّا ويذكرُ معهُ المسجدُ الأقصَى لِمَا بينهمَا مِن علاقةٍ روحيةٍ مباشرةٍ، فالمسجدُ الحرامُ هو الأخُ الشقيقُ الأكبرُ للمسجدِ الأقصَى، وبينهمَا مسافةٌ زمنيةٌ قصيرةٌ أخبرَ عنهَا الرسولُ ﷺ في الحديثِ الذي أخرجَهُ البخاري ومسلمٌ، فعن أَبَي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: “قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ المَسْجِدُ الأَقْصَى قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الفَضْلَ فِيهِ” [متفق عليه ]، وهذه العلاقةُ الروحيةُ بينَ المسجدينِ ذكرَهَا النبيُّ ﷺ في الحديثِ المتفقِ عليهِ يقولُ ﷺ: “لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى” (متفق عليه) ، لأنَّ اللهَ اختارَهَا وجعلَ الصلاةَ فيهَا أفضلَ مِن الصلاةِ في غيرِهَا، ووردَ في حديثٍ آخر إلّا أنَّ فيه ضعفًا عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ “صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ” رواه أحمد ) وإنّ هذا الربطَ بينَ المسجدينِ يشعرُ المسلمينَ بمسؤوليتِهِم نحو المسجدِ الأقصَى ونحو تحريرِهِ، وهذا الرّبطُ يشعرُ بأنّ التهديدَ للمسجدِ الأقصَى تهديدٌ للمسجدِ الحرامِ، وأنّ النّيلَ مِن المسجدِ الأقصَى توطئةٌ للنيلِ مِن المسجدِ الحرامِ؛ لأنّ المسجدَ الأقصَى بوّابةُ الطّريقِ إلى المسجدِ الحرامِ، وزوالُ المسجدِ الأقصَى مِن أيدِي المسلمينَ ووقوعُهُ في أيدِي اليهودِ هو في حدِّ ذاتِه تهديدٌ للمسجدِ الحرامِ وللبلادِ الإسلاميةِ بأسرِهَا، فكلُّهَا مقدساتٌ إسلاميةٌ واحدةٌ. فاللهَ اللهَ في قبلتِنَا، اللهَ اللهَ في إسلامِنَا ودينِنَا، اللهَ اللهَ في المسجدِ الأقصَى، اللهَ اللهَ في المسجدِ الحرامِ، اللهَ اللهَ في وحدتِنَا وتوحيدِنَا، اللهَ اللهَ في نصرةِ المسلمينَ في غزةَ وغيرِهَا.
دِينِي هو الإسلامُ دينُ محبَّةٍ *** دِينُ السلامَةِ سَالِمُ البُنيَانِ
دِينُ المَودَّةِ والتسامُحِ والهُدَى *** شَتَّانَ بين الحَقِّ والبُهتَانِ
حفظَ اللهُ مصرَ قيادةً وشعبًا مِن كيدِ الكائدين، وشرِّ الفاسدين وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.
كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه
د/ محمد حرز إمام بوزارة الأوقاف
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف